ملخص
لم يتوقف جوان جان عن الكتابة للمسرح منذ أكثر من 25 عاماً، وها هو نصه "آخر ليلة أول يوم" يعاد إخراجه في نسخة جديدة بتوقيع الفنان رائد مشرف. ولا بد من الإشارة إلى أن النص مستوحى من مسرحية الكاتب الفرنسي أوجين يونيسكو "هذيان ثنائي".
يدور العرض السوري (مديرية المسارح والموسيقى) حول زوجين يشهد عيد زواجهما نهاية متوقعة لعلاقتهما الفاترة، فيتبادلان الاتهامات ويشرعان في تقليب ماضي كل منهما والطبقة الاجتماعية التي جاء كل منهما منها، فيما العاصفة خارج منزلهما المتواضع تمنع المحتفلين معهم من المجيء، فيقضي الشريكان أوقاتهما في استعادة وتقليب مواجع، يكون الحب فيه سبباً لاستمرارهما معاً على رغم كل المعوقات التي تحد من ذلك.
ويقفز إلى الأذهان عند مشاهدة العرض السوري نص "هذيان ثنائي" لأوجين يونيسكو (1909-1994)، ذلك أن الكاتب الروماني- الفرنسي كان حقق نصه عام 1962 أيضاً عن زوجين يجاهدان طوال العرض في كيل الاتهامات لبعضهما بعضاً، فيما تدور رحى حرب في الخارج بين جيشين، ويقوم جنود بإنزال أشخاص لإعدامهم من طوابق البناء الذي يقطن فيه الزوجان، وصولاً إلى انهيار وخراب المكان بفعل القصف الشديد الذي لا يمنع زوجي يونيسكو من إتمام عراكهما وتقاذف الاتهامات بينهما.
وفي النص السوري "آخر ليلة أول يوم" يعوّض جوان جان عن الحرب عند يونيسكو بالعاصفة، وأحياناً يشير إلى لصوص يقومون بسرقة منزل الزوجين المجاور، مما يمر أيضاً عفو الخاطر ومن دون أن يسهم في تطوير وتأزيم الصراع لتحقيق المفارقة المنشودة بين خارج متحارب وداخل تنمو فيه خلافات حادة بين رجل وامرأة وصلا إلى حائط مسدود.
وبعيداً من نص يونيسكو العبثي، تبدو العلاقة بين منى (عهد ديب) ووسام (رائد مشرف) أقرب إلى حكاية واقعية، حرص مخرج وبطل العرض على تقديمها ضمن حذافير ديكور واقعي (ريم الماغوط) تجلى في حجرة تحف بها ستائر بيضاء تخفي خلفها سريراً مع وسائد وتتوسطها نافذة، فيما تقبع طاولة كبيرة مع كرسيين وسط الخشبة، وثمة مكتب آخر صغير للزوجة التي سنتعرف إليها ككاتبة سيناريو فشلت في تسويق نتاجها للشركات التلفزيونية، في حين يخبرنا الحوار بين الشريكين اللدودين أن الزوج هو الآخر ليس طبيباً كما تنادي عليه الزوجة في أول العرض، بل هو ممرض بسيط في مستشفى حكومي، وهناك إشارة تطلقها الزوجة ثم تسكت عنها عن عقم يعانيه الرجل الأربعيني يمنعهما من إنجاب الأطفال، وهذه نقطة لم تُستغل درامياً كما يجب.
مشاحنة مسرحية
لا أحداث هنا واضحة تطوّر من الخط الدرامي للعرض، بل هي حوارات أقرب إلى صيغة المشاحنة منها إلى الحوار الدرامي، وهذا أيضاً يتضح من استلهام نص يونيسكو "هذيان ثنائي" الذي يختلف فيه الزوجان حتى على الفوارق بين الملح والسكر، أو بين الحلزون والسلحفاة، فالزوجة تشعر بالبرد والزوج يريد أن يفتح النافذة لأنه يشعر بالاختناق، وهذا يورده أيضاً العرض السوري في لحظة من لحظات الصراع الجنوني، إذ يعمد وسام إلى فتح النافذة لكن منى ترفض ذلك، وفي تلك اللحظة ينكسر زجاج النافذة بفعل الرياح القوية في الخارج، مما يجعل الزوجة تعتني بيد الزوج المجروحة من نثرات الزجاج المتطاير، فتقوم بتنظيف المكان. خوف الزوجة تقابله لحظة تأمل، لعلها الوحيدة في العرض التي تعيد ذكريات الأيام الخوالي للزوجين المتخاصمين، وعن نزهاتهما الشيقة في حارات دمشق القديمة، وكيف كان الحب يغمر قلبيهما كعاشقين أبديين.
ولن تطول فترة الهدوء هذه ليعود الزوجان لسيرتهما القديمة، فيتجدد الاشتباك ويصل إلى حد إهانة الزوج لزوجته وضربها. ويحدث ذلك أيضاً بعد أن يذكّر الممرض زوجته بمنبتها الطبقي الفقير، وعمل والدها في بيع الأدوات الكهربائية المستعملة، مما يحمل الزوجة على نوبة انهيار عصبي تدفعها إلى تمزيق أوراق النصوص التي كتبتها، ومن ثم مغادرة المنزل وصراخ زوجها يعلو هو الآخر في إثرها، طارداً إياها من المكان مع حقيبة ملابسها. فلحظة تعتيم في الصالة (مسرح الحمراء) يعقبها ظهور الزوجة مجدداً وهي تشعل شموع عيد زواج آخر.
التناحر الدائم
المشهد الختامي هو ذاته المشهد الافتتاحي للعرض الذي دلل فيه كاتب ومخرج العرض أن آخر ليلة هي كأول يوم في صحيفة الزواج كمؤسسة اجتماعية يعيش ضمنها الزوجان حالاً من التناحر الدائم، ومن دون هدنة بين الحب والكراهية، فعلى حواف البغضاء تعيش الطمأنينة الزائلة كعقد اجتماعي محكم، ولكن هذا الحل أسهم أيضاً في التشويش على صورة المرأة ومدى احتمالها للعنف الزوجي مقابل بقائها في بيت الطاعة الزوجية بعد كل ما تعرضت له، فهل ينحاز "آخر ليلة أول يوم" إلى هذا المعطى من النماذج النسائية المذعنة لقدرها التي تعود لبيت زوجها حتى بعدما ضربت وأهينت فيه وطردت منه كجارية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسئلة معلّقة تفتح الباب واسعاً على قدرة المعالجة الفنية على اجتياز هذا التصور عن المرأة في بلدان العالم الثالث، ولا سيما أن العرض يقدم المرأة ككاتبة ومن ثم يعود ويسلمها إلى قدرها، فيما يقدم الرجل كممرض عنين موتور طوال الوقت وساخط وعصابي؟ وهذه صورة أكثر سواداً عن الرجل الشرقي. والسؤال الآخر هو توجه الأداء ضمن العرض الذي حافظت فيه الشخصيتان على غضبهما واستفزاز كل منهما للآخر، مما لم يكُن في مصلحة البناء الدرامي للمسرحية، ومما أضاع لحظات الذروة التي كان من الممكن التحكم بها على نحو أفضل، لولا أن المخرج الذي قام بدور البطولة تمسك بهذا الخيار، وجعله أقرب إلى مناكفة مستمرة بين الشريكين.
على مستوى آخر قامت موسيقى فادي الشاعر بدور في الحد من غلواء الأداء عبر مقطوعات التشيللو والكمان التي واكبتها إضاءة لافتة (تصميم جوري أكتع) في إضفاء تلك المسحة الشاحبة على المكان، وما آل إليه من وحشة وأسى في ظل عراك الزوجين وصراخهما المتقطع. يمكن أيضاً الإشادة بالتنفيذ الفني للديكور (يوسف النوري) الذي تضافر هو الآخر في إظهار واقعية الأثاث وعشوائية البيت المستأجر الذي دبّت الفوضى في أركانه، وغلب على قسماته توقف الزمن وتجمده في ساعة الحائط المتوقفة هي الأخرى على توقيت العاشرة إلا خمس دقائق، وهو موعد الحفلة السنوية لزواج بلا أطفال مع كثير من الصراخ والعويل على العمر الحزين المهدور.